نبيل فياض

مقالات مميزة

أهلا بكم في موقع الدكتور نبيل فياض

مقدمة كتاب الجمل 2018

مقدمة طبعة 2018:

 

بعد نحو من ربع قرن على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ها نحن نعيد الكرّة من جديد، محاولين بث الروح في عمل ربما كان الأكثر توزيعاً – ومشاكل – في سوريا على مدى سنوات منذ صدوره الأول.

لن أدخل في "حوليات" سفر الجمل لأنه خارج إطار اهتمامنا الآن، لكن سأحاول الولوج في تفاصيل الربع قرن الذي مضى، والمقارنة بين زمن ولادة الجمل وزمن الطبعة الأخيرة هذه.

في بداية التسعينيات، كان الشرق الأوسط ينبئ بمخاضات لم يكن واضحاً ما إذا كانت ستُجهض أم ستؤدي إلى ولادات جديدة تبث روحاً من الحريّة والعدالة والديمقراطية في منطقة وضعها الاستبداد والتطرّف الديني على أبواب السكون المميت. وكان الهدف الأوضح من هذا العمل محاربة الجناح الأخطر للسكونية المعرفية التي كانت – وما تزال – مهيمنة: التطرّف الديني، خاصّة بشكله الوهابي.

لأسباب معروفة، أهمها ثورة النفط وأسعاره بعد حرب أكتوبر ورغبة الوهابية السياسية في استخدام الوهابية الدينية من اجل تحقيق مزيد من التوسع على حساب الثقافات التقدمية، تم الزحف على المنطقة ببطء راسخ على سجادة من ريالات. وهكذا، ومن خلال الضعف البشري حيال النقود؛ الفشل غير المبرّر لدول الطوق الوهابي في تحويل مجتمعاتها من كتل طائفية إلى بلدان مواطنة؛ والشعور المزيف لحكّام دول الطوق الوهابي بفائض القوة الذي كان يُقنعهم زوراً بأنّ الكراسي راسخة ولا يمكن لأية قوة في العالم هزّها – كانت الوهابية الدينية تقضم مجتمعات دول الطوق الوهابي، يوماً بعد يوم.

نتيجة لما سبق، استغلت الحركة الوهابية كلّ عوامل الضعف في دول الطوق من أجل ترسيخ وجودها هناك. فمن جهة، زادت معدلات الفقر رغم ثورة أسعار النفط: فقر لعبت فيه العقلية الوهابية أو شبه الوهابية الدور الأهم عبر مفاهيم الحث على الانفجار السكاني (أي، كانوا يزرعون الفقر بمفاهيمهم الدينية العتيقة ويحصدون نتائجه سياسياً من خلال جذب الناس إليهم كمخلّصين)؛ الاستقطاب الطائفي الذي تجسّد في فكرة الأقليات الحاكمة والغالبيات المحكومة – نوع من التوتر المجتمعي أراد بعضهم في الغرب الحفاظ عليه من أجل مزيد من السيطرة على المنطقة؛ ومطاردة الفكر العلماني من الطرف السياسي الداخلي، لأنه أبرز الداعين لمحاربة الطائفية وإلى سيادة ثقافة المواطنة والديمقراطية، ومن الطرف الوهابي الخارجي، لأنه النقيض الأوضح للفكر الوهابي أساساً: في العلمانية، الشعب، عبر الديمقراطية، هو مصدر السلطات والحكم، في الوهابية، الكهنوت الديني هو مصدر السلطات والحكم، عبر ما يسمّى بالشرع الإلهي، أو استغلالهم لهذا الشرع من أجل مزيد من التحكّم المجتمعي.

جاء التدخّل الأجنبي في العراق ليخلق حالة جديدة لم يكن الشرق الأوسط مستعدّاً لها على الإطلاق. وبغض النظر عن كشف الغطاء عن الاستقطاب الطائفي الكامن دائماً، الذي كان – كالعادة – الوسيلة الأسهل للأجنبي كي يضع يده على البلد، فإن حالة الفراغ الأمني-السياسي-المجتمعي أوجدت الجو الأنسب لتزاحم التنظيمات المتطرفة، ذات الأساس الوهابي، على ملء تلك الثقوب. – ثم جاء الأسوأ. فقد تغاضت بعض الأطراف السياسية عن انتقال بعض المتطرفين من مواطنيها، من وهابيين وشبه-وهابيين، إلى العراق لمقاتلة الأمريكان بإشراف جماعات الإرهاب باسم الدين؛ فكان واحدهم يذهب إلى العراق وهابياً أو شبه-وهابي غير مقاتل، ليرجع من العراق وهابياً أو شبه-وهابي محترفاً في العمليات العسكرية.

وهكذا، يوماً بعد آخر، راحت جماعات التطرّف الديني تضع يدها، شيئاً فشيئاً على المجتمع. وفي نوع من اتفاق غير معلن، جرى اقتسام الشارع في المنطقة، فمن جهة، يترك لقوى الأمر الواقع السياسية الأمور الرسمية بتفرعاتها، ومن جهة أخرى، تُرك لجماعات التطرّف الديني أن تضع يدها على مقاليد المجتمع، بكل تجلياتها. وكان طبيعياً أن تدفع المعرفة الحقيقية، خاصة العلمانية، الثمن الأغلى لهذا التحالف. وكما نُقل غير مرّة عن جماعات التطرّف الديني، فإن صعودهم إلى قطار الوطن في عربته الأخيرة، لن يثنيهم عن الانسلال بهدوء وصمت كي يصلوا إلى عربة القيادة، ويتحكّموا بوجهة سير القطار. وهكذا، فبعد أن وضعوا أيديهم على المجتمع، لم يعودوا مقتنعين إطلاقاً بحصتهم في الشراكة القديمة، فكانت الاضطرابات التدميرية التي اجتاحت الشرق الأوسط بهدف أخذ الحصص كاملة؛ وكان الثمن هو الأغلى.

المعرفة أولاً، المعرفة أخيراً:

كان الهدف الأول والأخير من هذا الكتاب خلق حالة من التوعية المعرفية بأن صحابة النبي وأتباعه، الذي ورثنا عنهم كل ما بين أيدينا من نصوص مقدّسة أو شبه مقدّسة، مثلهم مثل سائر الناس، وأنهم تصارعوا حتى الموت على كرسي الحكم الدنيوي، بكافة السبل، مع كل ما يعنيه ذلك من سلطات سياسية ومالية ومجتمعية. وحشدنا لأجل ذلك كمّاً لا بأس به من الشواهد الداعمة لوجهة نظرنا في المسألة. اليوم، وبعد ربع قرن على طبعة الجمل الأولى، فإن الشواهد التي بين أيدينا حالياً تعادل أضعاف مضاعفة ما كان بين أيدينا في ذلك الزمن، خاصة بعد ما صار الوصول إلى المعلومة أسهل كثيراً عمّا كان الوضع عليه سابقاً مع انتشار الشبكة العنكبوتية في كل مكان. كذلك فإن عملنا على التاريخ الإسلامي حتى سقوط بغداد بيد المغول يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الصراعات الإسلامية الداخلية لم تكن صراعات دينية بقدر ما كانت صراعات سياسية. بل أن ما سمّي بالقرن الشيعي في التاريخ الإسلامي، بين بغداد وحلب والقاهرة، لم يكن قرناً دينياً بقدر ما كان قرناً سيطرت فيه قوى شيعية على الحكم ففرضت أفكارها على باقي الشعب.

لم تكن معركة الجمل نسيج وحدها في التاريخ العربي-الإسلامي، كما لم تكن نهاية معارك إسلامية داخلية بدأت ربما بالسقيفة مروراً بيوم الدار، بل كان فاتحة لسلسلة معارك من أجل الحكم أبرزها صفين، الحرّة، كربلاء، وغيرها. وهو ما يثبت صحة قولنا أن كل تلك المعارك لم تهدف إلا إلى السلطة. والباقي رتوش.

الصدقية الضائعة

مع ذلك، لا يمكن لنا إلا أن نتساءل: إذا كنّا في زمننا هذا، رغم وجود كل أجهزة التتبع والمراقبة الإلكترونية ذات الدقة غير العادية، لا نتفق في تفاصيل كثيرة لهذا الحدث الآني أو ذاك، كيف لنا أن نثق بروايات جاءت من مجتمعات بدائية تفتقر لأدنى درجات المعرفة المأمونة والتوثيق العلمي تحكي عن أشخاص بينها وبينهم عقود كثيرة؟ كيف لنا أن نثق بروايات ولدت في زمن أسوأ الصراعات السياسية بين الأمويين، العباسيين، والطالبيين؛ وكان كلّ طرف بحاجة إلى دعم لاهوتي لترسانته السياسية، وكان "العلماء" العنصر الأهم في هذه المعركة، مقابل ما يغدقه عليهم هذا الطرف السياسي أو ذاك من هبات؟ فإذا كان أبو بكر محمد بن اسحاق بن يسار بن خيار المدني، يعتبر أول مؤرخ عربي كتب سيرة رسول الإسلام محمد بن عبد الله وأطلق تسمية "سيرة رسول الله" على كتابه، قد ولد عام 703 وتوفي عام 768 وبدأ بجمع سيرته عام 733؛ كيف يمكن أن نصدّق ما يقول إذا كان النبي محمد ذاته قد توفي يوم 8 حزيران عام 632؟ بمعنى، أن ما بين وفاة النبي محمد وإكمال ابن إسحاق لجمع كتابه حوالي 120 سنة؛ دون أن ننسى أن رواياته التي تمّ جمعها كلّها شفوية.

يلاحظ النقّاد المحايدون أنّ الظرف السياسي فرض نفسه على ابن إسحاق، وهكذا، فقد شكّك البعض في حيادية بعض المواضيع التي أوردها في عمله والتي قد تكون غير منصفة لبني أمية لأن الكتاب كتب في عهد الخلفاء العباسيين والذين كان لهم خلافات مع من سبقهم من الأمويين. من ناحية أخرى، لم يكن اهتمامه الرئيس منصباً على تدقيق صحة الروايات وإنما كان غرضه جمع كل ما يمكن جمعه من معلومات عن الرسول محمد. وفي عام 115 هـ، الموافق 733 م، بدأ بالتنقل من المدينة إلى الإسكندرية ثم إلى الكوفة والحيرة ليستقر في بغداد حيث وفّر له الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور[1]  كل الدعم الممكن لأن يكتب عن تاريخ الرسول محمد. علماً أن ابن إسحاق نفسه ذكر في مقدمة كتابه أن "الله وحده عليم أي الروايات صحيحة". ورغم بعض الذين جرّحوا ابن إسحاق من أمثال مالك وهشام بن عروة بن الزبير، اللذين جرّحاه لعداوات شخصية، فقد اعتمد عليه مؤرخون بارزون للغاية، مثل ابن هشام والطبري.

في بحوثنا القرآنية التي وجدت تعبيراً لها في سلسلة، "فروقات المصاحف"، لم يكن لنا غير الدهشة من هذا الكم الغريب من القراءات غير التقليدية لآيات القرآن ونصوصه من قبل أهم وأوائل المراجع القرآنية، مثل ابن مسعود وأبي بن كعب، في أبرز أعمال تفسير القرآن، كتلك التي قدّمها القرطبي والزمخشري. فإذا كان القرآن، النص الأقدس إسلامياً والذي يُعتبر الأبعد عن التحوير أو التحريف، يسبح في محيط من قراءات تختلف عن مصحف عثمان بما في ذلك سور كاملة قيل إنها شُطبت[2] من القرآن أو سور كاملة قيل إنها أضيفت[3] إلى القرآن في مرحلة ما، فماذا يمكن أن نقول عن نصوص أبعد ما تكون عن القداسة كُتبت بعد موت أبطالها بعشرات السنين؟

البحث عن محمد التاريخي

مما لا شكّ فيه أن البحث في العالم الغربي-العلماني يسبق البحث في نظيره الشرقي-الإسلامي بأكثر من خمسمئة سنة. وضمن مشاريعنا في "نقد الفكر الديني"، اخترنا العمل على مجموعة نصوص مؤلّفة ومترجمة حملت عنواناً رئيساً هو، البحث عن يسوع التاريخي. وضمن هذا المشروع الفرعي من "نقد الفكر الديني"، اخترنا نصيّن للباحثين البارزين رايماروس وشفايتسر، إضافة إلى نص مؤلّف حمل عنوان، الإنجيل الخامس. ففي بدايات القرن الثامن عشر، بدأ رايماروس مسيرته الطليعية في نقد الكتاب المقدّس بعهديه، القديم والجديد. وكان هذا المفكّر الهام يريد الفصل، وإن على نحو غير واع، بين يسوع التاريخ ومسيح الأسطورة. ثم جاء الباحث الذي يعتبر نقطة تحوّل في تاريخ البحوث الكتابية، شفايتسر، في عمله، البحث عن يسوع التاريخي، الذي دخل في تفاصيل معضلة التنقيب عن جوهرة يسوع الحقيقي في جبل أساطير المسيح. وتأوجت العملية في بحث شتراوس الأهم، حياة يسوع. لقد حاول بولتمان، الذي ترجمنا له عمله الصغير، المسيح والميثولوجيا، إزالة الصبغة الميثولوجية عن يسوع. لكننا لم ندخله في مشروعنا لعدم صلته بالموضوع.

هل يمكننا الانتقال من البحث عن يسوع التاريخي إلى البحث عن محمد التاريخي؟ فحتى اليوم لا توجد دراسة نقدية محترمة تقارب القرآن أو الحديث خارج الإطار التقليدي. وفي حين تتفرّع النقدية الكتابية إلى علوم وأقسام متجددة باستمرار، ليس ثمة إشارة، أدنى إشارة، إلى نوع من النقدية القرآنية في العالم الإسلامي – بغض النظر عن نقدية الحديث. وكلّ ما تدور في فلكه علوم نقد الحديث والروايات حتى اليوم هو قصة الجرح والتعديل، التي تبدو أقرب إلى أسطورة متهالكة لا سبيل إلى القبول بها.

لا يمكن أن نتبنّى أطروحات وانسبرو الراديكالية التي تعتبر أن النبي محمداً شخصيّة أسطورية لا وجود لها، أن القرآن كتب في القرن الثامن، وأنه كتب في الكوفة لا في المدينة. لكن، بالمقابل، لا يمكن القبول بهذه السكونية المعرفية التي حوّلت المنطقة إلى نوع من المستنقعات لا تحوي غير المرض.

صعب علينا كأفراد العمل في مشروع ضخم كإعادة قراءة التاريخ الإسلامي – عمل كهذا بحاجة إلى مؤسسات ضخمة ترعاه، ومن ثم تحمي عقولنا جميعاً من هذا الانجراف الغرائزي نحو التطرّف والطائفية.

بدل التوظيف في مشاريع الأسلحة التي تحمي الأجساد من موت آني، وظفوا في مشاريع تحمي العقول من أي غزو مستقبلي.  

 



[1] ) ذكر لي الصديق الباحث المصري الذي أقام في سوريا ردحاً لا بأس به من الزمن، أنّ كتب الأدب عموماً، مثل الأغاني، أكثر ثقة وموثوقية مما يُقال إنه أعمال أكثر رصانة، مثل كتب التاريخ الشهيرة. مبرره في ذلك، والذي لا ينقصه المنطق، هو أن كتب التاريخ وغيرها من الكتب الأكثر رصانة، إنما كانت تٌكتب لهذا الحاكم أو ذاك، أو بإشراف هذا الحاكم أو ذاك؛ لذلك فهي محاطة تماماً بالرقابة السياسية، على الأقل، لا يمكن للمؤلّف الكتابة بعكس ما تشتهي ريح ربّ نعمته. وهذا، عموماً، غير موجود في أعمال الأدب والكشاكيل.

[2] ) من ذلك حديث عمر بن الخطّاب عن آية الرجم، حديث عائشة عن آية رضاع الكبير، وحديث أبي بن كعب عن الحفد واللفد.

[3] ) من ذلك قول عبد الله بن مسعود إن الفاتحة والمعوذتين ليست من أصل القرآن.

Who's Online

14 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

اشترك بالنشرة البريدية

أنت هنا: Home مقالات مييزة مقدمة كتاب الجمل 2018